Ahad, 13 Jun 2010

المجتمع الملايو والإسلام : خيار ليس له بديل 1


أثارت اهتمامتي في هذه الأيام حول قضية إعادة التصنيف التي اعتزمتها وزارة الثقافة الماليزية في تاريخ تأسيس سلطنة ملقا المسلمة من سنة 1400م إلى سنة 1262 م؛ نتيجة العثور على الأدلة المؤكدة التي تثبت على ذلك من قبل الباحثين. إعادة النظر في هذا المجال قد أخذت شوطا كبيرا مذ عدة أعوام تلت، وليست هي لأول مرة في تاريخ بلادنا المعاصر، وقد دعا إلى ذلك من قبل ثلة من المفكرين والمؤرخين لكن الحكومة لم تستجب إلى ذلك إلا لهذه المرة.


موطن النزاع في القضية المذكورة ماثلة في أخطاء ارتكبها كاتب "توم فيريس" البرتغالي، معاون شخصي لقبطان مستعمر شرقي الفونسو دي البوقاقي في كتابه الشهير "العالم الشرقي"، والقادم إلى أرخبيل الملايو حوالي سنة 1515م ويعمل كاتبا رسميا لحكومة الانتداب آنذاك. ويعتقد أن "العالم الشرقي" من أول مؤلفات تحدث عن ملامح اجتماعية شرقية خاصة في ملقا في القرن 16 الميلادي، وإن كانت فيه روائح الانحياز إلى الغرب شديدة, ثم اعتمد عليه كجزء من المصادر الموثوقة في التاريخ.


الكاتب المذكور كان يتحدث عن عصر الذهبي لسلطنة الملايو المسلمة ملقا مشيرا إلى أن الدولة تأسست ككيان عام 1400م على خلاف ما ذكره "سلالة السلاطين" أقدم سجلات رسمية التي سجلت عن السلطنة وأحداثها من قبل كاتب مجهول الهوية. ثم أصدره البرتغال ونقله إلى كوا في الهند فاستدركه بنداهارا تون محمد الملقب بسري لانانج رئيس الوزراء لولاية جوهر الماليزية في ظل حكومة جلالة الملك علاء الدين رعاية شاه سلطان الولاية السادس، وقام بتنسقيه من جديد حيث عرف لاحقا باسمه. وفي رواية أخرى هو الكاتب الأصلي بحدود عام 1614م بعد سقوط ملقا حوالي مئة سنة تقريبا والجدل حول مؤلف الحقيقي لم يزل محتدم عند العلماء .


أحداث فيها هراء


وكنا إذا عدنا إلى الماضي السحيق في تاريخ أجدادنا ملايو مسلم لم نجد سوى فتات العلم غير محقق لقلة المصادر المؤلفة من قبل علمائها وعقلائها من جهة، أو لمصادرة مستعمر الغرب الغاشم الذي سعى لطمس الحقائق وشق الالتئام والاتجار بالاستقرار والوئام ليربح من وراءها بما تمتلكه أراضينا الخصباء، ولو استطاع أن يهدم بيتا ليربح حجرا لفعل. بات الأمر الأول يختلج في ذهني، على مدى القرون فلمَ لم نعثر على كتاب واحد موثق نعتمد عليه لمعرفة أيام أجدادنا؟ شيئ لا يعقله العاقل؛ لأن الأمم الأخرى لهم مذكراتهم التي لم تكد تحمل الشك لحقائقها، وما الذي ينقصنا نحن من هؤلاء؟ ولم أجد بعد ذلك إلى الجواب سبيلا سوى أن مكائد الغرب واختلاسهم قد أحل فينا.


السياح البيضاء الذين نزلوا في بلاطنا مستكشفين فيصبحون بعد ذلك مستعمرين، وطفقوا يعملون على إبراز إسائتهم وكرههم للمسلمين، فاخترعوا الحوادث لا أصل لها بقصد التشويه والتفسير الخاطئ حسب التصور الذي يدينون بها. ثم ذاعت إثر هؤلاء ثلة غير قليلة من تلاميذ المستشرقين المأجورين من دمنا ولحمنا، فكان ضررهم أشد وأنكى من ضرر أساتذتهم نظرا إلى صلتهم بالدولة وحكامها. فكم من الوقائع التي سجلها كتب التاريخ في عصرنا المعاصر ما هي مخالفة للحقائق ومجانفة عن الحق، ويعتقدها مجتمعنا أنها أمر سائغ سلس لا يحتمل التبديل والتأويل والذي أثار الشكوك و تحرى الصواب من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا.


صحيح؛ إن التفسير التاريخي للحوادث لا يعدو كونه اجتهادًا بشريًّا يحتمل الصواب والخطأ لكن التحامل والحقد والتضليل أمور لا يطاق احـتمالها ولا يستطاع قبولها. لقـد عمد هـؤلاء إلى التشبُّث بالروايات المشبوهة والضعيفة والساقطة، يلتقطونها من الكتب المنحولة والضعيفة أو يكتبونها حسب المطامع الشخصية كصنيع محمد حسن بن محمد أرشد كاتب التاريخ لسلسلة ولاية قدح عام 1928م؛ حيث شوه تاريخ البلاد بإدراج من لا يحق لهم الدخول وإخراج من لا يستحق الإبعاد وورَّى الكثير من الحقائق الثابتة حول دخول الإسلام، كما حثا الرغام على معالم أولئك الذين جاهدوا في الله حق جهاده ضد سحق البوذيين القادمين من التيلاند.


شعب الملايو و الإسلام


شعب الملايو بدون الإسلام شعب ليس لها الوجود على أرض الواقع. حياتهم بدونه حياة أرقاء وأقزام في أحضان ذوي السلطة الإقطاعيين والجبروت الأرسطقراطيين، ويخدمون ويعملون لرفاهية هؤلاء طيلة النهار، ولا يملكون شيئا في هذه الحياة الدنيا سوى ما يسد رمقهم ويستر عوراتهم. أما الأرض القابعة فيها أكواخهم والحارسة فيها ثيرانهم واليانعة فيها ثمارهم حتى الآبار الساقية لحاجاتهم يملكها أولئك الشرفاء.



ولم يضن لنا التاريخ وسجل لنا ثنايا الكلمات التي ورثناها كابرا عن كابر، والتي تدل على استحقار الشعب واستصغارهم أمام ملوكهم وبقي الكثير منها لم يزل مستخدما إلى يومنا هذا في المراسم الرسمية في القصور. توحي هذه الكلمات جلها إلى العبودية والامتثال الهمجي لأوامر الملوك .انظر إلى مقولة " تون بياجد " نجل "هانج تواه" في سلالة السلاطين صفحة 193 عندما خلى سلطان محمود شاه ملك ملقا بامرأته ووقع بها فقال للسلطان : "هكذا فعلتك يا مولاي، لولاي عبد من إمائك لكنت قد أوقعت بك هذا الرمح".


السلاطين في غابر الأزمان مكانتها عالية جدا تكاد أن تضاهي الأوثان التي تعبد من دون الله فثمت أن نجد أن كتب التاريخ طافحة بغرائب الأقوال وعجائب القصص اللتين تنص على طاعتهم المفرطة وتقليدهم الأعمى حيال تصرفات ملوكهم السيئة والظالمة، والذي مد يده لطلب حق من حقوقه المسلوبة أو قام على وجوههم بالاعتراض والتنكيل يعتبر ذنب لا يغتفر وحلت له اللعنة على تعاقب الأجيال كما حدث لـ"هانج جبت" ثم العار كل العار أن يعصى الملايو ملوكهم.


الحديث عن سوء تصرفهم وقساوة قلوبهم أمر يستوعبه القارئ المنصف في سلالة السلاطين وإن كان العهد قد هيمن عليه الإسلام؛ فإن حيف الملوك وتحرشهم على نساء العالمين ليس لهم الحدود. وقد ذكر أن تون "علي سندانج" قيد إلى القتل لمجرد الشكوك أحس بها السلطان محمود شاه أنه قد خلا بفتاة جن عليها جنونه وكأن الظلم من شيم نفوسهم ومن لم يكن ظالما منهم فلعة لا يظلم.


ثم جاء الإسلام وما يحمل معه في طياته من طيب سريرة أهله و سمت أخلاقهم، وأقبل إليه الملوك باعتناقه طوع إرادتهم ومنتهى قناعتهم، فبادر الشعب على نهجهم من دون أدنى تردد فاصطبغ بهم أشد الاصطباغ وذاع في كل مكان. وسرعان ما تحطمت العقائد الزائفة التي تنبني على عبودية المحسوسات، وتلاشت الخزعبلات التي استحكمت عليهم، وتهدمت الأسدال التي تصنف الشعب إلى طبقات الشرفاء والأنذال.


تحولت القصور الفاخمة والحصون العالية إلى ملتقى الشعب بعد أن كانت مثوى الشرفاء التي يحذر منها الاقتراب، ونظمت مجالس العلم والإرشاد، ورممت المساجد، وأقيمت الصلوات كما اتسمت أسماءهم بأسماء عربية إسلامية، وتجسدت فيهم تعاليم الدين الجديد ومبادئه تدريجيا حتى عمت الحياة أمنا واستقرارا. ثم انتشرت فيهم حركة التقدم والازدهار وأدت إلي ترقية الحياة الاجتماعية لديهم ،فانمحت الأمية لدى الشعب أوتقليل عددها، فظلوا ينطقون بلغة موحدة تضاهي لغة العالم كلها، ويكتبون بالخط العربي المعروف بالجاوي حيث انصهرت لغتهم مع لغة العربية أشد الانصهار.


استوفت هذه اللغة جميع إرادات ومتطلبات الشعب في أرخبيل الملايو ويعطي الانطباع أن الإسلام قد رفع شأنها وسوى مكانها بحيث لا يحتمل الانفكاك، وتلاحمت اللغة الملايوية باللغة العربية لتصبح هي الثانية المسيطرة على الكتابة ولتصبح مفرداتها هي البديلة والمتممة لمعظم الفراغات اللغوية. وهذب الإسلام كذلك بفضل هذا المزيج حايتهم الساذجة حيث سمت ألفاظهم عن المعاني الجاهلية والتعبيرات البذيئة فانصرفوا يعبرون عن سمو أخلاقهم ورفعة معيشتهم.


ولا شك أن التلازم الوثيق والارتباط المحكم بين اللغة الوليدة واللغة القرآن آتيتان لغرض العبادة والخضوع لأوامر الرحمن، فغدت مفرداتها مستعارة بشكل هائل من الكلمات العربية ومصطلحاتها دون تغيير تحت السياق الديني والعقلي؛ لتلبي حوائج المسلمين كما كان وضعها للداتها من فصيلات أخريات أمثال لغة أردو في الهند وسواحلي في أفريقيا وغيرهما. ولا يمكن أن يتخلوا عن العربية أو يستغنوا عنها لكونها لغة دينيهم وعبادتهم فكل خطوة إلى التخلي عنها إيذان بالتخلي عن الإسلام.